عندما تقوم الجهة المخوّلة بدعوة الناخبين للتوجه إلى صناديق الاقتراع
لانتخاب مجالس جديدة ، فالوضع الطبيعي أن يستجيب الجميع لهذه الدعوة ، و أن
تُتخذ الاجراءات اللازمة كي تأتي مؤسسات جديدة معبّرة تعبيرا صحيحا عن
إرادة الناخبين، و معبّرة عن الأوزان الحقيقية للقوى السياسية المتنافسة.
غير أن رفض منسقية المعارضة الديمقراطية و بعض الأحزاب الأخرى لاستجابة
لهذه الدعوة و قرارها مقاطعة الانتخابات احتجاجا على عدم استجابة رئيس
الجمهورية لمطالبها الخاصة بضمان الشفافية والنزاهة، يثير إشكالية كبيرة
سوف تلقي بظلالها على مستقبل العملية السياسية بالكامل.
الاشكالية التي يثيرها قرار المعارضة اليوم تعود بنا إلى البداية في 2008،
تاريخ الانقلاب العسكري على الدستور وعلى المؤسسات الدستورية، عندما دخلت
كل القوى في مسار مُشوّه وغير صحّي، فرض عليها إدارة صراع سياسي حاد، و
شاق، و مرير استمرّ طوال مأمورية رئاسية كاملة، بدا خلاله أنّ مُعظم ما تمّ
بناؤه على أساس اتفاق 2009 من صبغة شرعية على الرئاسة و من ثمّ على بقية
المؤسسات قد انهار كليّا، أو يكاد.
و بما أن الأساس الذي ُبنِيَ عليه المسار كان مُشوها و مُعوجا، فكلّ طابق
سيُبنى فوقه سينهار في يوم من الأيام. و ستكون الخسارة أكبر و أفدح إذا ما
تماديْنا في البناء الأعْوَج ليطال طابقين أو ثلاثة أو عشرة، لأنّ المبنى
سيسقط على رؤوسنا حتما، إن عاجلا أو آجلا...و الأفضل لنا جميعا أن نُعيد
بناءه، و نحن الآن في الطابق الأول بدلا من المكابرة و الاستمرار، و تصوّر
أن المشكلة في ديكور البناء، و ليست في الأساس الذي يعاني من عيوب ستهدم أي
ناطحات سحاب تُبنى عليه، إذا لم يكن اليوم فغدا...
وقد يكون هذا الخلل البنيوي في"ماهية" النظام و"منشئه" أحد الأسباب
الكثيرة التي دعت المعارضة لاتخاذ موقف مبدئي بعدم المشاركة فيما يقوم به
من عمل باعتباره بُنِيَ على باطل و أساس هش.هذا بالإضافة إلى حقها في
الدفاع عن كرامتها و مصداقيتها كشريك فاعل في اللعبة السياسية جدير
بالاحترام و الاعتبار، له رأيه و كلمته و رمزِيّته الأساسية في أي نظام
يدّعي الديمقراطية...
زد على ذلك أنّ المشكلة الجوهريّة بالنسبة للانتخابات المقبلة لا تتوقف
على من سيشارك فيها أو من سيفوز بقدر ما تتوقف على ما إذا كانت ستشكل محطة
على طريق تحقيق الحد الأدنى من التوافق السياسي كشرط لازم لتوفير الأمن و
الاستقرار،،،أم لا؟. و في هذا الصدد، أخشى كغيري من المراقبين المستقلين،
أن تبقى شكوك كثيرة في أن تتمكن الانتخابات المقبلة من تحقيق الحد الأدنى
من التوافق المنشود، بل أخشى أن تكون-على الأرجح- خطوة غير موفقة على طريق
تعميق الأزمة الحالية، و ليس خطوة على طريق حلّها،،،هذا، إن لم تتدارك
السلطة أمرها وتأتي بمقاربة جديدة، مقنعة، وعملية، تدفع باتجاه الحوار،
والتوافق، والمصالحة.. و ممّا يزيدني خشية و تحفُّظا، هذا الذي يتردّد في
الشارع اليوم من عبارات الكلل و الملل و الانتقاد بخصوص المشاركة في
انتخابات هي العشرين من نوعها، معلومة النتائج مسبقا، عديمة الجدوى
والفائدة، لا ولن تأتي بجديد، أو تغيير، أو تداول...لأنّ الصناديق في هذا
النوع من الانتخابات و في ظلّ هذا النوع من الأنظمة الأحادية تنحاز
"طبيعيّا" أو"وراثيا" إلى الدولة، و رئيس الدولة، و حزب الدولة، و مال
الدولة،إلخ...وعزوف الناس عن العودة إلى تكرار نفس الحملات العبثيّة حقيقة
يعلمها الجميع،ولن يُغطّي عليها صخب الحزب و أحزاب الحزب، وما يقوم به
الطامعون في الترشيح و التعيين من إثارة للنعرات والحساسيات والانقسامات
داخل العشائروالقرى لخلق حالة من التفرقة والانقسام، و تضليل الرأي العام و
إيهام الناس بوجود مناخ تنافسي و تعدّدي...لكن، هيهات...ما سيحصل في هذه
الانتخابات – إذا ما تأكّد غياب المعارضة – لن يكون تعدّدا سياسيا، بل
تِعدادا ينقسم فيه الواحد إلى الألف عن طريق التشظّي، و التشرذم،
والانشطار، والانسلاخ، و التجزئة، إلخ...أمّا التعددية السياسية
والحزبية...فتلك قصّة أخرى.
و على هذا الأساس، نصيحتي لكل الأطراف أن تسعى بشكل أكثر جدية و مسؤولية
للعثور على مخرج. و في تقديري أن العثور على مخرج في ظل الأوضاع الراهنة
سيظل مستحيلا ما لم يقتنع الجميع، و خاصّة النظام بضرورة الجلوس إلى طاولة
مستديرة للأحزاب وأهم مكونات المجتمع المدني، و فتح حوار وطني عميق و صريح
حول أمّهات القضايا البنيوية والسياسية المطروحة على المجتمع و الدولة،،،و
هو ما يستدعي تأجيل الانتخابات المؤجّلة والمؤخّرة أصلا، وتشكيل حكومة
كفاءات محايدة تحظى بتأييد القوى السياسية الرئيسية في إطار معادلة سياسية
مرحلية تقوم على توازن بين "الشرعية [للرئيس]و الشراكة [كحق للمعارضة]"
تكفل حق الجميع في تسيير طاولة الحوار و رسم معالم المستقبل و تحديد
الإجراءات اللازمة لتنظيم انتخابات حرة و نزيهة في جوّ من التشارك و
الوفاق...و أحذّر من الاختباء وراء منطق السلطوية أو التسلط، و الاستمرار
في المكابرة و المعاندة من قبل النظام...ومحاولة فرض انتخابات أحادية في
آجال محددة من طرف واحد...انتخابات، نُدرك جميعا أنّها، إذا أقيمت في
موعدها المحدّد، 23 نوفمبر، فسوْفَ تنْتَهى أشغالُها، وتُطوى أخبارُها،
وتُعلن نتائجُها... قبل أن تربط المعارضة سِرْوَالهَا و تشدّ نعلها...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق