26 أغسطس، 2013

في المحراب المغدُور! (هوامش على قصيدة مصر الدَّامية)

سيد محمد ولد الصغير
كانتْ هبَّةُ الشعب المصري لاسترداد ثورته المسروقة يوم الثالث من يوليو هبَّةً ثورية شديدة الثراء ملأى بالدلالات، فياضة بالعبر، وكأن نهرها الذي تفجر من قلب رابعة العدوية-مكانا-بين يدي شهر رمضان- زمانا- أراد منذ البداية أن يمنحها سمتها الإيماني المميِّز وشفافيتها الروحية النادرة، وهي تمضي في طريقها لتحرير مصر من الانقلابيين ولو بباهظ الثمن، محررةً في طريقها ذالك معاني العبادة والزهد مما علق بها من رواسبِ الضعف والاستكانة للظالمين، والنفور من ميادين العزة والكرامة، لتخضلَّ لحى النُسَّاك من الشيوخ بالدم والدمع معا، ولتتخضَّبَ أكُفُّ الحرائر بالنجيع في أيام العمر (بأعراس النضال)!
كأني أسمع صوت عبد الله بن المبارك يخترق الزمن مناديا:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا///لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه///فنحورنا بدمائنا تتخضَّب...!

أما رابعة وحلفها فقد غسلوا أدران التصوف ومحوا عاره بالدم الزكي، وأما العمائم الزَّائفة فقد تركوها مغموسة في الدم لتبوء بالإثم والدعاوى الكاذبة..

وتلك ألسُن اللهب وقد تحولت سوادا حالكا بوجنات مسجد رابعة العدوية تشرح السِّر الذي بينه وبين المعتصمين يوم عاقدوه ميثاقا غليظا، فلم يكن ليزْوَرَّ عن النار التي تفحمت بها أجسادهم في حماه الطهور، ولسان حاله يقول:

لا يُسلم ابنُ حرة زميلَهْ///حتى يموتَ أو يرى سبيلَهْ

ومنذُ البدء كان الانقلابيون مفضوحين وهم يوارون سوءاتهم بخِرَق بالية من الزور صنعتها أيدٍ خرقاء لشيخ الأزهر وبابا الكنيسة وثلة حقيرة من العلمانيين وبلطجية المخابرات، وقد بلغ افتضاحهم في رابعة-وما تلاها- ذروته بحرق المساجد والمصاحف، وقتل النساء والأطفال، ثم إضرامِ النار في الجثث على مرأى العالم في مشهد يشيب له الولدان، ويمعن له الكون في العويل، على حد تعبير الأستاذ الشاعر ادي ولد آب في رثائيته الحزينة: (مصر الدامية) التي يقول فيها:

لمصرَ.. الكونُ يُمعِنُ في العويلِ///فمن دمها تفجَّر ألفُ نيلِ

ثم يمضي يستنطق الدلالاتِ ويفك الرموز الموحية في قصة رابعة وهبَّة استنقاذ الثورة المصرية فيقول:

أرى التاريخ يُكتب من جديد///ويلتبِس الرجا بالمستحيل

ويُمسك خيط التاريخ في استدعاء شعري دال، فإذا الأمر جولة جديدة من حرب ممتدة على طول الزمن، منذ عهد قابيل وهابيل(ابني آدم) اللذين يمثلان أصرح رموز البغي والظلم في طرف، وأصرح رموز الحق والمظلومية في الطرف الآخر، وما قابيل في مشهدنا إلا السيسيُّ وفئته الباغية الوالغة الأيدي في دماء المعتصمين السلميين وهم يرفعون شعار ابن آدم المظلوم: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين...)..

والرَّمزُ بقابيل يستبطنُ إشارة بليغة إلى عقدة الحسد التي دفعته إلى سفك دم الأخوة المعصوم، وهي تحمل اليوم فئة من العلمانيين الحاقدين وأشياعهم على ارتكاب الجرم عينه حين أقصتهم الصناديق وقلاهم الشعبُ مختارا (إخوانا) لهم آخرين مدوا إليهم أيديَهم بالإنصاف والسلام..

ويرى الشاعر فيما جرى برابعة عودة لفرعون وهو يتخذ من المجازر معالم حضارته وأسس مِصرِه المبتدَعة التي رمز لها بالهرم. ولا يلتزم –الشاعر- هنا بترتيب زمني للأحداث مراعاة لروابط معنوية يتكئ عليها النص:

أرى فرعونَ.. يبْنِي بالضَّحايا///له هرما.. قتيلا في قتيل
أرى قابيلَ من هابيلَ تهمي///دَماً كفَّاهُ جيلاً بعد جيل

ثم يتجه بسؤال حزين لطرفي المشهد وارثي قابيل وهابيل وهما يجسدان الدور ذاته على أعتاب رابعةِ الحب والسلام:

أيا ابنيْ آدمٍ.. ما ذا تبَقَّى///لرابعةٍ من الحب الجميل؟!

ما ذا تبقى لرابعةِ الحب الإلهي والمواجع الروحانية، "وألم الحق النبيل"

أجل.. لقدْ سُفك دمُ رابعة يوم سفك دم الأخوة المعصوم، وماتتْ بذرة الحبِّ في دماء الظالمين
ها هم يطلقون النار على رابعة نفسها ثم يحرقون جثتها ومحرابها في مشهد صارخ أليم!

ورابعةٌ تُصلي في دِماها///وتَتْلُو في اللَّظى وِرْدَ الوصول!!

لكنه يستدركُ مقررا أن ذاك الاستشهاد والعروج إلى منازل الروح هو عين التصوف وثمرة الحب الإلهي:

أرابعةُ.. التصوفُ أنتِ أدرى///رحيلٌ للسَّما يا للرحيل

ويقدم الشاعر خلاصة رأيه في المشهد المصري: بأنهما طريقان لا ثالث لهما: طريق عزة، وذل، عزة تنصر الحق وتنافح عنه، وذل يستمرئ الباطل ويسكت على الضيم.

أرى أمَّ "الدُّنا".. اختبرتْ بنيها///ليمتازَ العزيزُ من الذَّليلِ

وقد بان الحق لذي عينين:

فما بينَ انتخابٍ وانقلابٍ///أرى أيْقونتيْ سِلمٍ وغُول

ذالك رأي الشاعر بلا مواربة ولا التفاف في تعبير مبتكرٍ يشي بروعة الانتخاب وجمال الاختيار الشعبي-الذي يكون غبَّه السلامُ والوئامُ من جهة-وبشاعة الانقلاب العسكري وشؤم طالعه في الجهة المقابلة إذ عاقبتُه الهلاك والاقتتال(...أرى أيقونتيْ سِلْمٍ وغُول).

ويختم الشاعر نصه بدعوة أهل مصر من الأحرار إلى الاتحاد في مواجهة الانقلاب الذي يهددهم بعودة الفلول (حيثُ البؤس والزمن القاتم) ثم ينتفض لكرامة مصر قائلا: وكيف تعود مصر إلى الفلول؟!

يقول الشاعر في مرثيته: (مصر الدامية)

لمِصْرَ .. الكَوْنُ .. يُمْعُنُ..في العَويلِ
فمِنْ دَمِـــــهَا .. تَفَجَّرً .. ألْفُ نِـــــيل

أرَى التـــاريخَ .. يُكْتَبُ .. مِنْ جَدِيـدٍ
ويَلْـتَبِسُ .. الرَّجَـــا .. بالمُسْتَحِــــيلِ

أرَى .. فِرْعَوْنَ .. يَبْنِي .. بالضَّحَايا
لهُ هَـرَمًا .. قَـتِـــيلاً .. في قـتِــــــيلِ

أرَى.. قَـابِـيلَ ..مِنْ هَـــابِيلَ ..تَهْمِى
دَمًا .. كَفَّاهُ .. جِــيلا .. بَعْدَ جِـــيلِ

أيَاابْنَيْ آدَمٍ .. مــــــــــــاذا تَبَـــــقَّى
لِــرَابِعَةٍ .. مِنَ الحُبِّ الجَمِـــــيلِ؟

ورَابِعَةٌ .. تُصَـلِّي .. فِــي دِمَـــاهَا
وتتلو..في اللظى..وِرْدَ الوُصُـولِ؟

أرَابـِعَةُ .. التَّصَوُّفُ - أنْتِ أدْرَى-
رَحِـــيلٌ .. للسَّمَا .. يَاللرَّحِـــــيلِ!

أرَى.."أمَّ الدُّنَا"..اخْتَبَرَتْ بَنِــيهَا
لِيَمْتَازَ العَزيزُ .. مِنَ الذَّلِـــــــيلِ

فمَا بَيْنَ .. انْتِخَابٍ .. وانْقِـلاَبٍ
أرَى أيْقُونَتَيْ : سِلْمٍ .. وغُــولِ

فَيَا أحْرَارَها.. اتَّحِدُوا.. لِتَسْمُو
وكيْفَ تَعُودُ مِصْرُ إلَى الفُلُولِ؟

دمتم في رعاية الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق